عقل بوتين حين يقرأ مسار الحرب و يتنبأ بمستقبلها: قراءة في دراسة جديدة ل(الكسندر دوجين ) فيلسوف روسيا وإستاذ بوتين

بقلم د.رفعت سيدأحمد           

           ماذا عن مسار و مستقبل الحرب الروسية الاوكرانية ؟سؤال يشغل بال العالم بعد أن دخلت  تلك الحرب عامها الثاني قبل أيام مضت ..ولان التوقعات  والتحليلات عديدة ومتناقضة  ..فإن الادق عميا والاكثر إحاطة  وإفادة بمسار الحرب ومستقبلها هو أن نقترب من العقول الاستراتيجية المفكرة لدي طرفي الصراع وبخاصة الطرف الروسي ..من هنا تأتي أهمية الدراسة الشاملة التي قدمها قبل أيام وبمناسبة دخول الحرب عامها الثاني  الفيلسوف الروسي الاشهر  الكسندر دوجين والذي يوصف ب(عقل بوتين ) ويعتبره الكثيرون في أوربا (أستاذ بوتين )  وأن الاخير – بوتين – يستمع وينفذ ما ينصح به حرفيا بدءأ من (إحتلال القرم ) وصولا الي (الحرب في أوكرانيا )   وينسب الفضل إلى كتابات ألكسندر دوجين القومية ، في تشكيل رؤية فلاديمير بوتين للعالم..و هو مؤرخ وأستاذ علم الاجتماع في جامعة موسكو سابقا، والمستشار السياسي والعسكري للكرملين  والذي يعتبره البعض في الغرب “أخطر فيلسوف في العالم”.

وكان دوغين قد تنبأ بأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا “حتمية” ودعا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى التدخل العسكري في شرق أوكرانيا “لإنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا”. ماذا تقول دراسة  الكسندر دوجين ؟       

            *******                                     

                                                          تحمل دراسة (الكسندر دوجين ) عنوان :(عام على الحرب الأوكرانية: من عملية روسية خاصة إلى حرب شاملة)ونشرت في أواخر فبراير 2023  يقول في بدايتها ( انقضى عام على بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا. وهي عملية بدأت كعملية عسكرية خاصة، لكن من الواضح اليوم أن روسيا وجدت نفسها في حرب كاملة وشاملة وصعبة. لم تكن الحرب مع أوكرانيا – كنظام، وليس مع شعب (ومن هنا تم بداية طرح مطلب نزع النازية السياسية في أوكرانيا)، ولكن كانت الحرب قبل كل شيء مع “الغرب الجماعي”، أي في الواقع، مع كتلة حلف شمال الأطلسي (الناتو). فباستثناء الموقف الخاص لتركيا والمجر، الساعيتين للبقاء على الحياد في الصراع، تشارك دول الناتو المتبقية في الحرب إلى جانب أوكرانيا بطريقة أو بأخرى.

هذه السنة من الحرب قد حطّمت العديد من الأوهام التي كانت لدى جميع أطراف النزاع)  

                       ******.

 في  دراسته المهمة يذهب (دوجين ) الي أن الغرب في هذة الحرب  كان يراهن علي  فعالية سيلٍ من العقوبات ضد روسيا وعزلها شبه الكامل عن جزء من الاقتصاد العالمي والسياسة والدبلوماسية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها، لكنه لم ينجح في ذلك. فقد استمر الاقتصاد الروسي معتمداً على نفسه، ولم تكن هناك احتجاجات داخلية، ولم يتذبذب موقف بوتين، بل صار أقوى. فلم يتم إرغام روسيا على وقف العمليات العسكرية، أو على عدم مهاجمة البنية التحتية العسكرية التقنية لأوكرانيا، أو على سحب قرارات ضم كيانات جديدة. ولم تحدث انتفاضة من قبل الأوليغارشيين الروس، الذين تم الاستيلاء على أصولهم في الغرب أيضاً. فقد نجت روسيا، على الرغم من اعتقاد الغرب بجدية أنها ستسقط)  

                         *****.

 ولكي تكون رؤيته  متوازنة يؤكد  الفيلسوف (دوجين ) في موضع آخر في دراسته بالغة الاهمية أن أوكرانيا بالمقابل (كانت  مستعدة لأفعال روسيا أكثر من أي أحد آخر، والتي بدأت الحديث عن ذلك الاستعداد في عام 2014، عندما لم تكن لدى موسكو نيات بعيدة لتوسيع الصراع، وبدا أن إعادة ضم شبه جزيرة القرم كافية تماماً لها. فإذا كان نظام كييف قد فوجئ بأي شيء، فهو قد فوجئ بالتحديد بالإخفاقات العسكرية لروسيا التي أعقبت نجاحاتها الأولية. أدى هذا إلى رفع الروح المعنوية لمجتمع مشبع بالفعل بالروسوفوبيا المسعورة والقومية المتعالية. في مرحلة معينة، قررت أوكرانيا قتال روسيا بتفانٍ حتى النهاية. فكييف، نتيجة المساعدة العسكرية الهائلة من الغرب، قد آمنت بإمكانية النصر، وأصبح هذا عاملاً مهماً جداً للنفسية الأوكرانية المعنويات).

********

ثم يفصل (دوجين ) بعد ذلك مراحل الحرب  في السنة الأولى  ووزعها علي  ستة مراحل  .. من(المرحلة الاولي)  التي مرت خلالها القوات الروسية بمدينتي سومي وتشرنيهوف من الشمال ووصلت إلى كييف، وقوبلت  بوابل من الغضب في الغرب. أثبتت روسيا جديتها في تحرير نهر دونباس، وباندفاع سريع من شبه جزيرة القرم، فرضت سيطرتها على منطقتين أخريين هما، خيرسون وزابوروجي. استمرت هذه المرحلة حتى الشهرين الأولين. في حالة من النجاحات الواضحة، ثم بدأت الحرب سجال بين الدولتين في المراحل الخمس التالية وصولا الي المرحلة السادسة الحالية التي يصفها   الفيلسوف ( الكسندر دوجين ) ب(التوازن الجديد -)والتي (

استقرت الجبهة تدريجياً وتطوّر مأزق جديد. الآن لا يمكن لأي من الخصمين أن يقلب المسار. لقد عززت روسيا نفسها بجنود احتياطيين معبّئين. دعمت موسكو المتطوعين وخاصة “مجموعة” فاغنر، التي تمكّنت من تحقيق نجاح كبير في قلب المسار في مسارح الحرب المحلية.

استمرت هذه المرحلة حتى الآن، وهي تتميز بتوازن نسبي للقوى. لا يستطيع الطرفان تحقيق نجاحات حاسمة  )ثم يفصل (دوجين ) في مسألة إحتمالات الحرب النووية  وبعد تفصيل كبير في أسرارها يستبعدها تماما .).الا إذا تعدت القوي الغربية ما أسماه ب(الخطوط الحمر ) وسببوا ضررا بالغا  علي الامن القومي الروسي وتسببوا في هزيمة روسية كاملة …ساعتها قد تستخدم روسيا الاسلحة النووية التكتيكية .

******

 وفي الجزء الاخير من دراسته بالغة الاهمية  والذي يحمل عنوان (نهاية الحرب )  يقدم (عقل بوتين ..الفيلسوف الكسندر دوجين ) توقعاته  لنهاية الحرب ويري أنها  قد تمر بثلاث سناريوهات  كلها تحمل إنتصارا لروسيا :الاول أسماه ب(إنتصار الحد الادني ) والثاني ( النصر النصفي ) والثالث (النصر الكامل وهو تحرير أوكرانيا بالكامل ) وفقا لنص كلمات دوجين…وإذا ذهبنا الي ما يرجحه أو يتمناه  دوجين فهو النصر النهائي  نجده يحدده بالاتي : سيكون الانتصار الكامل لروسيا هو تحرير كامل أراضي أوكرانيا من سيطرة النظام  الموالي للغرب وإعادة إنشاء الوحدة التاريخية لكل من دولة السلاف الشرقيين والقوة الأوراسية العظيمة. عندئذٍ سيتم تأسيس التعددية القطبية بشكل لا رجوع فيه، وسنكون قد قلبنا تاريخ البشرية رأساً على عقب. إضافة إلى ذلك، فإن مثل هذا الانتصار وحده هو الذي سيجعل من الممكن التنفيذ الكامل للأهداف الروسية المحددة في بداية العملية العسكرية الخاصة وهي: نزع النازية ونزع السلاح، لأنه من دون السيطرة الكاملة على الأراضي المعسكرة والنازية، لا يمكن تحقيق ذلك).

ولكن- يستدرك الفيلسوف دوجين  قائلا – (هذا السناريو سيكون له نتائج  من الغضب الغربي علي روسيا والتي عليها أن تستعد له من الان .. لان روسيا  المستبعدة من الغرب الجماعي والمعزولة عن التكنولوجيا والشبكات الجديدة، ستكون لديها داخل نفسها كتلة ضخمة من السكان الذين لن يكونوا موالين بالكامل، إن لم يكونوا معادين لها، والذين سيتطلب اندماجهم في هيكل اجتماعي واحد جهداً غير عادي من بلد منهك أساساً من الحرب…ولكنه يؤكد أن روسيا قادرة علي المواجهة والانتصار  وفق هذا السناريو ).

*********.

*ينهي (دوجين ) دراسته المثيرة للجدل بقوله:بدأ بوتين العملية العسكرية الخاصة كواقعي. ليس أكثر من ذلك. لكن بعد عام، تغير الوضع. أصبح من الواضح أن روسيا في حالة حرب مع الحضارة الليبرالية الغربية الحديثة ككل، مع العولمة والقيم التي يحاول الغرب فرضها على الجميع. ربما يكون هذا التحول في إدراك روسيا للوضع العالمي أهم نتيجة للعملية العسكرية الخاصة. تحولت الحرب من الدفاع عن السيادة إلى صراع حضارات (بالمناسبة تنبأ بهذا بشكل صحيح صموئيل هنتنغتون). (ولم تعد روسيا-وفقا للفيلسوف دوجين _ تصر ببساطة على الحوكمة المستقلة، وتقاسم المواقف والمعايير والأعراف والقواعد والقيم الغربية، ولكنها تعمل كحضارة مستقلة – بمواقفها ومعاييرها وتقاليدها وقواعدها وقيمها. لم تعد روسيا هي الغرب. ليست دولة أوروبية، بل حضارة أرثوذكسية أوراسية. هذا بالضبط ما أعلنه بوتين في خطابه يوم 30 /سبتمبر 2022 بمناسبة استقبال المناطق الأربع الجديدة، ثم في خطاب فالداي، وكرر ذلك مرات عديدة في خطابات أخرى. وأخيراً، في المرسوم 809، وافق بوتين على أسس سياسة الدولة لحماية القيم التقليدية الروسية، وهي مجموعة لا تختلف اختلافاً كبيراً عن الليبرالية فحسب، بل في بعض النقاط هي عكسها كلياً.

لقد غيّرت روسيا نموذجها من الواقعية إلى نظرية عالم متعدد الأقطاب، ورفضت الليبرالية بشكل مباشر بجميع أشكالها، وتحدّت بشكل مباشر الحضارة الغربية الحديثة – وحرمتها صراحة من حقها في أن تكون عالمية)                  

                             ****.

* أهم ما في  الامر عند الفيلسوف _دوجين _ أن تلميذه في الفكر والدراسات السياسية ( بوتين)  لم يعد  يؤمن بالغرب. فهو يسمّي الحضارة الغربية الحديثة صراحةً “شيطانية”. وبهذا الاستخدام للمصطلحات، يمكن للمرء-والقول لدوجين – بسهولة التعرّف على نداء مباشر إلى علم أمور الآخرة واللاهوت الأرثوذكسي، فضلاً عن تلميح إلى المواجهة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي في عهد ستالين. صحيح أن روسيا اليوم ليست دولة اشتراكية. لكن هذا هو نتيجة الهزيمة التي عانى منها الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينيات، ووجدت روسيا ودول أخرى في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي نفسها في موقع المستعمرات الأيديولوجية والاقتصادية للغرب العالمي. كان عهد بوتين بأكمله حتى 24 /فبراير 2022 بمثابة استعداد لهذه اللحظة الحاسمة. لكنه اعتاد أن يظل في إطار الواقعية. هذه هي الطريقة الغربية للتنمية + السيادة. الآن، وبعد عام من التجارب القاسية والتضحيات الرهيبة التي عانت منها روسيا، تغيّرت الصيغة: السيادة + الهوية الحضارية، أي الطريقة الروسية)                             

*******.

** تلك خلاصة الرؤية الروسية الاستراتيجية لمسار ومستقبل الحرب مع الغرب الامريكي والاوربي  في أوكرانيا ..قدمها قبل أيام  الفيلسوف الروسي الاشهر : الكسندر دوجين الذي يوصف –كما اشرنا- ب(عقل بوتين )وهي رؤية تحتاج الي تأمل  وخاصة في الشق المتصل بحتمية الانتصار الروسي وبأنه إنتصار علي قيم الغرب وليس فحسب إنتصار علي أسلحة وتكنولوجيا وأراض محتلة ..أنها إذن (حرب  عالمية ثالثة) بأدوات وقضايا مختلفة وأبعاد بالغة التعقيد والعمق ..والله أعلم